حديث الجمعةشهر جمادى الأولى

حديث الجمعة 421: العصبيَّات المدمِّرة

الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين وبعد:

العصبيَّات المدمِّرة:

لا زالَ الحديث متواصلًا حولَ هذا العنوان (العصبيَّات المدمِّرة) وتقدَّم القولُ بأنَّ أخطرَ أشكالِ هذه العصبيَّات هذان الشكلان:

· العصبيَّات التي تحملُ صِبغةَ الدِّين.

· العصبيَّات التي تحملُ صبغةَ السِّياسة.

ويحاولُ الحديثُ هنا أنْ يُعطيَ مزيدًا من التوضيحِ لهذين الشكلين:

 

الشَّكلُ الأوَّلُ: العصبيَّاتُ الَّتي تحملُ صِبغةَ الدِّين:

وقد أنتجتْ هذه العصبيَّاتُ في تاريخِ المسلمين معاركَ وخلافاتٍ وصراعاتٍ كلَّفتهم أثمانًا باهظةً من دماء وأموالٍ وأعراض…

ولا زالتْ هذه العصبيَّاتُ تمارسُ فعلَها المدِّمر في مجتمعاتِ المسلمينَ، بما أنتجتْهُ من تطرُّفٍ وعُنْفٍ وإرهاب، معتمدة أخطر الأدوات، ومن هذه الأدوات:

(1) المناهجُ الدِّينيةُ المتعصِّبة:

فمناهجُ من هذا الطرازِ لا إشكالَ تخرِّجُ أجيالًا متعصِّبةً، ممَّا يُغذِّي في داخلِها النزوعَ نحو التطرُّف، بما ينتجُهُ هذا التطرُّف من جنوحٍ نحو العنفِ والإرهاب.

إنَّ كلَّ الاستنفاراتِ العسكريةِ والأمنيةِ والسِّياسيةِ لن تقْوى على إنهاءِ التطرُّفِ والعنفِ الإرهابِ ما لَمْ تُنَقَّ (المناهجُ الدِّينية) في بلدانِ المسلمين من (لُغةِ التعصُّب) و(لُغةِ التكفيرِ) و(لُغةِ الإلغاءِ).

وما لَمْ يتوقَّفْ (الشَّحنُ الطائفيُّ والمذهبيّ) الَّذي يُغذِّي (الكراهيَّة) ويُشكِّل (المحضن والبيئة) لنمو جماعاتِ التطرُّفِ والعُنفِ والإرهاب.

إذا أُغْلِقتْ (الحواضنُ) وجُفِّفتْ (المنابعُ) فسوف تُحقِّقُ (الاستنفاراتُ العسكريةُ والأمنيةُ والسِّياسيةُ) دورَها الفاعلَ في ملاحقة جماعاتِ التطرُّف والعنفِ والإرهاب.

 

(2) المنابرُ الدِّينيةُ المُتعصِّبةُ:

هذهِ المنابرُ من أخطرِ الأدواتِ في إنتاج أسوءِ أشكالِ التَطرُّفِ والإرهاب…

لا أتحدَّثُ هنا عن (منابرَ) تنتمي إلى طائفةٍ معيَّنة، وإنِّما الحديثُ عن أيِّ (مِنْبرٍ دينيّ) يُمارسُ (التعصُّبَ المرفوض) انتمى إلى هذه الطائفةِ أو إلى تلك الطائفةِ.

هذه المنابرُ التي تحملُ التعصُّبَ المرفوضَ لا تُمثِّلُ خطابَ الدِّينِ الحقِّ…

خطابُ الدِّينِ الحقِّ هو خطابُ وحدةٍ وتقارب وتآلف بين المسلمين…

هو خطابُ محبَّةٍ، وتسامحٍ، ورفقٍ، واعتدال…

هو خطابُ بناءٍ، وإصلاح…

· خطابُ الدِّينِ الحقِّ هو الَّذي يقولُ: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ (آل عمران /103).

· خطابُ الدِّينِ الحقِّ هو الَّذي يقولُ: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء/92). ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون/52).

· خطابُ الدِّينِ الحقِّ هو الَّذي يقولُ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ… ﴾ (آل عمران/159).

· خطابُ الدِّينِ الحقِّ هو الَّذي يقولُ: «مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

هذا هو خطاب الدِّينِ الحقِّ…

وما كانَ خطابُ الدِّينِ الحقِّ في يوم من الأيام خطاب فُرقةٍ، وتمزُّقٍ، وتشتُّتٍ، وعداوةٍ، وفتنةٍ، وعصبيَّةٍ، وتطرُّفٍ، وعُنْفٍ، وإرهاب…

 

· فهذه كلمات الدِّينِ الحقِّ تقولُ: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال/46).

· وهذه كلمات الدِّينِ الحقِّ تقولُ: «لا تختلِفُوا فإنَّ مَنْ كانَ قبلكم اختلَفُوا فهلكوا».

· وهذه كلمات الدِّينِ الحقِّ تقولُ: «اللَّهُمَّ إنَّا نعوذ بكَ من مُضلِّاتِ الفتن».

· وهذه كلمات الدِّينِ الحقِّ تقولُ: «ليس منَّا مَنْ دعا إلى عصبيَّة».

· وهذه كلمات الدِّينِ الحقِّ تقولُ: «لكلِّ دينٍ خُلُقٌ وخُلُقُ الإيمانِ الرِّفق».

 

أخلصُ إلى القول:

إنَّ الخطابَ الَّذي يزرعُ الأحقاد والضغائن والعداواتِ والصِّراعاتِ بين المسلمين ليس من خطابِ الدِّين الحقِّ.

وإنَّ الخطابَ الَّذي يُؤجِّج الفتنَ الطائفيةَ والمذهبيةَ بكلِّ منتجاتِها المُرعبةِ والمدمِّرة ليسَ من خطاب الدِّينِ الحقِّ.

وإنَّ الخِطابَ الَّذي يُؤسِّسُ للتطرُّفِ والعُنفِ والإرهابِ ليس مِن خطابِ الدِّينِ الحقِّ.

 

الشَّكلُ الثَّاني: العصبيَّاتُ الَّتي تحملُ صِبْغةَ السِّياسة:

مَنْ المسؤول عنْ أزمات الأوطان؟

الأنظمةُ الحاكمةُ أم الشعوب؟

صحيح أنَّ أمنَ الأوطانِ، وصلاحَ الأوطانِ مسؤوليةُ كلِّ المكوِّنات، فتخلفُ أيّ مكوِّنٍ عن أداء مسؤولياتِهِ له آثارُه السَّلبيةُ على أوضاع الأوطان…

إلَّا أنَّ المسؤوليةَ الأساسَ تتحمَّلُها أنظمةُ الحكم، ومن أخطرِ ما يصيبُ أنظمة الحكم (التعالي على النقد والمحاسبة) الأمر الذي يُكرِّس الأخطاءَ، والمفاسد، والتجاوزات، حينما يعتقد أيُّ نظام حاكم أنَّه فوق النقد والمحاسبة لا يمكن أنْ يكتشف أخطاءه، ولا يمكن أنْ يصحِّح أوضاعه، ممَّا يدفع إلى تراكم تلك الأخطاء، وإلى تأزُّم تلك الأوضاع…

والعكس صحيح، فأنظمة الحكم المتواضعة، والجريئة في الاعتراف بأخطائها، والتي تصغي لكلِّ نقد ومحاسبة، ما دام ذلك النقد والمحاسبة من أجل صلاح الأوطان وخيرها، وليس من أجل التأزيم، إذا مارستْ الأنظمة ذلك بصدقٍ وإخلاصٍ وجدِّيةٍ كانت المآلاتُ غيرَ المآلات، وكانتْ الأوضاع غيرَ الأوضاع، وكانت النتائجُ غير النتائج، وكانت أوضاعُ الأوطان بخير.

وتكونُ الأنظمةُ قد وفرَّتْ على نفسِها وعلى شعوبِها، وعلى أوطانِها كلَّ العناءاتِ، والإرهاقاتِ، والأزماتِ، والأثمانَ الباهظةَ والثقيلةَ.

نعم يجبُ الاعترافُ بأنَّ الأزماتِ في الكثيرِ من بلدانِ المسلمين قد وصلتْ إلى مستوياتٍ عاليةٍ من التعقيدِ، بفعل مجموعةِ أسبابٍ وعواملَ، ممَّا كرَّسَ اليأسَ والإحباطَ، وخلق إحساسًا بالعجز في مواجهةِ هذا التعقيدِ، وفي التصدِّي لتلك الأسباب والعوامل، وأنتج تشاؤمًا اغتال كلَّ التفاؤلاتِ، وأسقط كلَّ الآمال…

إلَّا أنَّ كلَّ هذا لا يُبرِّر (الاستسلام) والانهزام مهما تحكمتْ التعقيدات…

ولا يُبرِّر أنْ يسقطَ الأملُ في زحمةِ كلِّ التشاؤماتِ والإحباطات…

لا يوجدُ خسرانٌ أكبر من خسرانِ الأمل.

ولا توجدُ هزيمةٌ أكبر من هزيمةِ الإرادة.

ولا يوجد فشلٌ أكبرُ من فشلِ الإصرار على المبادئ الحقَّة.

إذا كانتْ خياراتُ الشعوب: الحقّ، والعدل، والأمن، والكرامة، والاستقرار، والإنصاف، والحرية، والخير، والرفاه، والمحبَّة، والتسامح، والاعتدال، فيجب أنْ تكونَ إراداتُ الأنظمة الحاكمة متطابقةً مع خيارات الشعوب…

ومتى تكاملت إرادات الأنظمةِ الحاكمةِ مع خَياراتِ الشعوب المحكومةِ كان هذا هو الطريق الصحيح…

وأمَّا إذا تصادمتْ إراداتُ الأنظمةِ مع خيارات الشعوب ومصالحها وتطلعاتِها تأزَّمتْ أوضاعُ الأوطان، وارتبكتْ السِّياسات، وتعقَّدت المسارات…

فما يريحُ الأنظمةَ، ويُرضي الشعوبَ، ويحمي الأوطانَ أنْ يَسودَ العدلُ، والأمنُ، والإنصاف، والمحبَّة، والثقة، وتتكاملُ كلُّ القدراتُ من أجلِ بناء الأوطان.

الأنظمةُ الحاكمةُ بيدها أنْ تصنع الكثيرَ الكثيرَ لشعوبها متى ما أرادتْ، وصدقتْ، وفعلت، وأعطتْ…

ولنْ تتردَّد الشعوبُ أنْ تبادلَ الأنظمةَ إرادةً بإرادةٍ، وصدقًا بصدقٍ، وثقةً بثقةٍ، وفعلًا بفعلٍ، وعطاءً بعطاء…

وأما إذا انعكس الأمرُ انعكستْ المعادلة…

فتصادمتْ الإراداتُ، واهتزتْ الثقةُ، وتصارعتْ الأفعالُ، وتناقضتْ المواقف…

وكانت الأوطانُ وأمنُها واستقرارُها وخيرُها، ووحدتُها، وشعوبُها الضحيةَ…

ليس من حقِّ أحدٍ حاكمًا أو محكومًا أنْ يفرِّط بمصالح الأوطان، مهما كانت المبرِّراتُ والقناعات، ربَّما تختلفُ القناعاتُ في بعض الشؤون، وفيما هي المصالحُ والمفاسدُ، إلَّا أنَّ هناك ثوابتَ لا يختلف عليها أحدٌ تشكِّلُ (المصالح الكبرى للأوطان)، فلا يختلف اثنان في أنَّ العدلَ، والحريةَ، والكرامةَ، والأمنَ، والوحدةَ، والمحبَّةَ، والتسامحَ، والإنصافَ والتعاونَ، والتآزرَ، هي من تلك الثوابت التي لا يجوز إطلاقًا التفريطُ فيها تحت أيّ ذريعةٍ أو مبرِّرٍ.

ومتى ما تأسَّستْ العلاقات بين الأنظمةِ والشعوب اتكاءً على هذه الثوابت، فسوف تتشكَّل الأرضية الصالحةُ للتقاربِ والتفاهم حول مشروعاتِ الإصلاح والبناء، وحمايةِ الأوطانِ من كلِّ الأزمات، والتعقيدات، والانتكاسات…

وبقدرِ ما تتوفَّر الشجاعةُ في التحرُّر من (عصبيَّات السِّياسة) تتسهَّل أجواء (التفاهمات والتوافقات) في إنجاز مشروعات البناءِ والإصلاحِ وإنقاذِ الأوطان.

للحديث تتمَّة تأتي إنْ شاء الله تعالى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى