السيد علوي السيد أحمد الغريفيشخصيات ورجال

كلمة العلّامة الغريفي في حفل تأبين السيد علوي الغريفي في ذكراه السنوية الأولى

بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين, وأفضل الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ وآله الهداة الميامين…
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:


فأتمنَّى أن تكون مشاركتي المتواضعةُ في تأبينِ هذا العالمِ الربَّانيِّ الكبيرِ هي بعضُ وفاءٍ لأبٍ, وبعضُ وفاءٍ لمربِّي, وبعضُ وفاءٍ لأستاذٍ…
نعم بعضُ وفاءٍ لأبٍ…


كانَ لي أبًا رؤوفًا حانيًا, فمنذ أواسط العقد الثاني من عمري احتضنتني أبُوَّتُهُ, وغمرتني حُبًّا, وعطفًا, وحنانًا, في بيتِهِ, ومعَهُ كنتُ أقضي الكثيرَ الكثيرَ مِن أوقاتي, عاملني كما يُعاملُ أبناءَه أحمد, وجعفر, وباقر وربَّما أكثر, ممَّا ملأني انجذابًا إليه, وذَوَبانًا في حُبِّهِ, وعُشْقًا إلى صُحبتِهِ, كنتُ آنسُ كلَّ الأُنسِ وأنا إلى قُربِهِ, ووجدتُه كذلك يأنسُ بي, ممَّا زادني انشدادًا إليه, وانصهارًا معه, وذوبانًا فيه…


كانَ لهذه الأبوَّةِ الحانيةِ دورُها الفاعلُ الفاعلُ في حياتي, ولا أجدُ نفسي قادرًا أن أفيَ بجزءٍ من حقِّ أبوَّتِه, وحسبي أنْ يكون حاضرًا في في دعائي, وحاضرًا في عقلي, وفي ذاكرتي, وفي قلبي, وفي كلِّ حياتي…
ومِن الوفاءِ له أنْ أكتبَ, أنْ أتحدثَ, أنْ أُعرِّفَ بشخصيَّتِه ما وسعني ذلك, وهذه المشاركةُ في تأبينه هي بعضُ وفاءٍ لهذا الأبِ الكبير, أسأله تعالى أنْ يكونَ هذا خالصًا لوجهه سبحانه…
هذا أوَّلًا…


وثانيًا أتمنى أن تكون هذه المشاركه بعض وفاءٍ لمربِّي…
فأنا مَدِينٌ لتربيته, ورعايتِه, وتوجيهاته الروحية والأخلاقية…
كانَ نعم المربِّي والموجِّه, صاغ نفسَه قبل أنْ يصوغ الآخرين, وهذَّبَ نفسَهُ قبل أنْ يُهذِّبَ الآخرين, وربَّى نفسَه قبل أنْ يربِّي الآخرين…هذه صفةُ العالم الربَّاني, الذي يطلب العلمَ لله, لا للدنيا…


• في الحديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«مَنْ طلَبَ العلمَ للهِ لم يُصبْ منه بابًا إلَّا ازدادَ به في نفسِهِ ذُلًّا, وفي النَّاسِ تَواضُعًا, وللهِ خوفًا, وفي الدينِ اجتهادًا, وذلكَ الَّذي ينتفعُ بالعلمِ فليتعلَّمْهُ, ومَنْ طلب العِلمَ للدّنيا والمنزلةِ عند النَّاسِ, والحظوةِ عند السُّلطانِ لم يُصبْ منه بابًا إلَّا ازدادَ في نفسِهِ عظمةً, وعلى النَّاسِ استطالةً, وباللهِ اغترارًا, ومِنَ الدينِ جفاءً, فذلك الذي لا ينتفعُ بالعلمِ, فليكُنْ, وليُمسِكْ عن الحجَّةِ على نفسِهِ, والندامةَ والخزيَ يومَ القيامة».


• وعنه صلَّى الله عليه وآله:
«أوحى اللهُ إلى بعضِ أنبيائه: قل للَّذينَ يتفقَّهونَ لغير الدِّينِ, ويتعلَّمونَ لغيرِ العملِ, ويطلبونَ الدُّنيا لغير الآخرةِ, يلبسون للنَّاسِ مُسوكَ الكباشِ وقلوبُهم كقلوبِ الذِّئابِ, ألسنتُهم أحلى مِن العسلِ, وأعمالُهم أمرُّ مِن الصَّبْرِ, إيَّايَ يُخادِعُونَ؟! ولأتيحنَّ لهم فِتْنةً تذرُ الحكيم حيرانًا…».


سيدُنا اتقَن تربيةَ نفسِهِ, وأتعبها في طاعتِه, وامتلأ روحانيةً, وانسكبتْ طُهرًا, ونقاءً, وصفاءً, وعُشقًا لله, وخشوعًا في عبادتِة, وذوبانًا في لحظات الانقطاع والدعاءِ, والذكرِ والتلاوة…


وتجلَّى ذلك في هديه وسلوكه وأفعاله, تقوًى وورعًا, والتزامًا, وخُلُقًا رفيعًا, وأريحيَّةً, وشفافيةً, وتواضعًا, وقلبًا كبيرًا حمل همَّ البؤساء والفقراء والمحرومين…


وكانَ العبدَ الصابرَ المحتسبَ, الذي لا يزدادُ إلَّا شكرًا لله, ورضًا بقضائه…
حياتُه كانت مزدحمةً بالابتلاءات الصعبةِ القاسية…
بدأ حياته يتيمًا..
فقد بصرَهُ في مرحلةٍ مبكِّرةٍ مِن العمر…
ألمَّتْ به أمراضٌ وأسقام…
وكانَ الابتلاءُ الأصعبُ, والامتحانُ الأقسى, حينما فاجأه القدرُ, واختطف الموتُ ولَدَهُ العلَّامة الشهيد السَّيد أحمد, وكانَ عينَهُ التي يُبصر بها, بل كانَ كلَّ حياتِه, وكان أملَهُ الذي يُمثِّلُ امتداده…
فقد ولد نموذجًا لعالمٍ توفَّرت فيه خصائص ومؤهِّلات لو قدِّر لها أن تتكامل لانفتحت به على مستقبلٍ كبيرٍ جدًا.
واجه سيِّدُنا الابتلاءَ بصبرٍ فيه شيئٌ من صبر الأنبياء, واحتسابٍ فيه شيئ من احتساب الأولياء…
وشكرٍ فيه شيئٌ من شكرِ الصدِّيقين…
نسأله تعالى أنْ يرفع له مقامًا عليًّا في عباده الصالحين…
في أجواء هذا المربِّي الكبير كان لي بعضُ حضور…
ولا أزعمُ لنفسي أنَّني استطعتُ أن أتمثَّل توجيهاتِه, وإرشاداتِه, وهديَهُ, وأخلاقَهُ، وتقواه…


وحسبي أنَّني حاولتُ أنْ أتمثَّلَ, أنْ أنفتحَ, أنْ أقتربَ, أنْ أنْهلَ مِن هذا النبعِ الثرِّ, فإنْ كنتُ قد أصبتُ فبمنِّ اللهِ وتوفيقِهِ وكرمِهِ, وإنْ أخطأتُ الكثيرَ فبتقصيري, وتفريطي, فما أكثر ما يكونُ الظمآنُ على مشارفِ النبعِ فيبقى ظمآنًا.
هؤلاءِ العلماءُ الصلحاءُ الأبدالُ منابعُ هدايةٍ وخيرٍ وصلاحٍ, وشُفَعاءُ للنَّاسِ…


• في الحديث عن الإمام الرِّضا عليه السَّلام:
«يُقالُ للعابدِ يومَ القيامةِ: نِعمَ الرجلُ كنتَ, هِمَّتُكَ ذاتَ نفسِكَ, وكفيتَ النَّاسَ مَؤُونَتكَ فادخلْ الجنَّةَ, إلَّا  إنَّ الفقيهَ مَنْ أفاضَ على النَّاسِ خيرَهُ, وأنقذهم مِن أعدائهم…


ويُقال للفقيهِ: يا أيُّها الكافلُ لأيتام آل محمدٍ [صلَّى الله عليه وآله], الهادي لضعفاءِ مُحبِّيهم
ومواليهم, قفْ حتى تشفعَ لكلِّ مَنْ أخذ عنكَ, أو تعلَّم منك».


• وفي الحديث عن الإمامِ الصَّادقِ عليه السَّلام:
«إذا كان يوم القيامةِ بعثَ اللهُ عزَّ وجلَّ العالمَ والعابدَ, فإذا وقفا بين يدي اللهِ عزَّ وجلَّ قيل للعابد: انطلقْ إلى الجنَّةِ, وقيل للعالمِ: قفْ تشفع للنَّاسِ بحسنِ تأديبكَ لهم».


هذه فيوضاتُ وبركاتُ هذا النمطِ مِن العلماءِ الصلحاءِ الأخيارِ، إلَّا أنَّنا نحنُ الأشيقاءَ لا نستفيدُ مِن بركاتِ وجودهم، ومِن فيوضاتِ علومهم، وإذا فقدناهم تأسَّفنا، حيثُ فرَّطنا، وأضعنا فرصةَ الاستفادةِ منهم، والاستضاءةِ بأنوارهم الربَّانية…


• في الحديث عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وآله:
«النظرُ في وجوهِ العلماءِ عبادة».


• وسُئِلَ الإمام الصَّادقُ عليه السَّلام عن معنى ذلك فأجاب:
«هو العالمُ الذي إذا نظرتَ إليه ذكَّركَ الآخرة، ومَنْ كانَ خِلافَ ذلك فالنظرُ إليه فتنة».


وما أكثرَ علماءَ الفتنةِ في هذا الزمان، الذينَ اتخذوا مِن علمِ الدينِ تجارةً يبيعونها للحكَّام والسَّلاطينِ وأمراءِ الجْورِ…


• في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله:
«ويلٌ لأمَّتي مِن علماءِ السُوءِ يتَّخذونَ هذا العِلمَ تجارةً يَبِيعُونَها مِن أمراءِ زمانِهم ربحًا لأنفسِهم، لا أربحَ اللهُ تجارتَهُمْ».
في هذا الزمنِ أصبحت فتاوى الفتنةِ، والتكفيرِ، واستباحةِ الدماءِ، والأعراضِ، والحُرُمَاتِ، دينًا يُسَوِّقُه هؤلاءِ المُتَلبِّسونَ زُورًا وبُهتانًا لباسَ الدينِ وعلماء الدينِ…


فالويل الويل لهؤلاءِ المتاجرين بالدين، بما أشعلوا مِن فتنٍ عمياء، وبما أيقضوا من صراعاتٍ هوجاء، وبما أجَّجوا من عداواتٍ بين المسلمين، وبما أراقوا مِن دماءٍ محرَّمةٍ، وبما أزهقوا مِن أرواحٍ بريئةٍ، وبما هتكُوا مِن أعراضٍ عفيفةٍ، وبما سحَقوا مِن كراماتٍ، وبما دنَّسوا مِن حُرُماتٍ، ومقدَّسات…


كلُّ ذلك باسم الدين، ودين الله من ذلك براء، ما صنعوُه هو غُوايات شيطانٍ، وإملاءاتُ سلطانٍ…
أنْ يكذبَ حُكَّامُ جورٍ، وأمراءُ قهر…
أنْ يُزوّرَ إعلامٌ صنعتْهُ أنظمةُ استبدادٍ…
أمرٌ لا يبعث على الاستغراب… أمَّا أنْ يَكْذبَ، أمَّا أنْ يزوّرَ حَمَلةُ دينٍ، ورجالُ فقهٍ، خدمةً لسلاطين الظلم، ولأنظمة الاستبداد ففي غاية القبح والاستهجان…


لستُ هنا في صددِ الاسترسال أكثر حول هذا النمط مِن علماءِ السُوءِ – حسب تعبير الحديث النبوي – إنَّما هو كلامٌ استدعاه السِّياق، وفرضتهُ المقابلةُ ونحن بين يديّ عالمٍ ربّاني، ورجلِ فقهٍ أخلصَ لدين الله، وصاحب فضلةٍ لم تُدنّسها أغراضُ الدنيا، ومقايضاتُ الحكَّام والسَّلاطين…


وفي محطَّةٍ ثالثةٍ أقول أنَّ هذه المشاركةَ المتواضعةَ هي بعضُ وفاءٍ لأستاذ، كما كان السّيد الغريفي الكبير أبًا، ومربِّيًا، فهو لي أستاذٌ أفخرُ كلَّ الفخرِ بتتلمذي على يديه…


كان رضوان اللهِ عليه هو الذي غذَّى في داخلي الرغبةَ في دراسةِ الفقهِ، كما غذَّى في داخلِ الكثيرين…


وهو الأستاذُ الأوَّلُ الذي رَسَم لي معالمَ هذا الطريق…
وحينما أتحدَّثُ عن أستاذٍ تعلَّمتُ منه الكثيرَ الكثيرَ، لا أتحدَّثُ فقط عن حضورِ دروسِ الحوزةِ، بلْ أتحدَّثُ عن عدَّةِ مساراتٍ شكَّلتْ أنماطًا متعدَّدةً، أفادتني حوزويًا…


المسارُ الأول:
تتلمذتُ على يديهِ مِن خلال القراءة له…
كنتُ ملتزمًا أنْ أقرأ له، فقد كانَ شغوفًا في قراءةِ ومتابعةِ الكتب العلميةِ والثقافية، والأدبية، والتاريخية، وفي شتَّى المجالات، إلى جانب الكتب الحوزوية، والكتب المتعدَّدة في شؤون الدين، وكان يهمّه أن يتابع أخبار السِّياسة من خلال الجرائد والصحف…
وقد وفرَّتْ لي هذه القراءةُ فرصةً جيَّدةً للتزوّد بالثقافة الدينيَّة والفقهيَّة، وغذَّتْ فيَّ شوقَ المطالعة، والارتباطَ بالكتاب، وخاصَّة الكتاب الديني…


وهنا أسجِّلُ ملاحظتين:
الملاحظةُ الأولى: ربَّما كانَ الكثيرُ ممَّا أقرأهُ له فوق مستوى مداركي وقدراتي الذهنية في ذلك الوقت، وبالأخص حينما تكونُ القراءةُ في الكتب الاستدلالية الأصولية والفقهية أو في الكتب الفلسفية والمنطقية المعقَّدة…


الملاحظة الثانية: لا أخفي أنَّني كنتُ أضيقُ حينما يكلِّفني بالقراءة له في الكتب المطبوعة بالحرف الحجري القديم، والمزدحمة بالحواشي المكثَّفة والمتعرِّجة والمتداخلة، وكنتُ أجد صعوبةً شديدةً في التعاطي مع هذا النمط من الكتب، والتي كان رحمه الله يأنس بها كلَّ الأنس؛ كونها لعلماء كبار، وتحمل مطالب علمية دقيقة، يهمُّهُ كثيرًا أن يكون متواصلًا معها، وإنْ كانت لا تعني لي في ذلك الوقت شيئًا ذا بال…



المسارُ الثاني:
كانت مُجالستُهُ ومُصاحبتُهُ مصدرَ عطاءٍ علميٍّ وثقافي وروحي…
ومِن مميِّزاتِه البارزة أنَّه كان مُحبًّا للمذاكرات العلمية، وكان يحاول أنء يَملأ الوقتَ بما يُفيدُ جلَّاسه، وكان يثيرُ دائمًا رغبةَ السؤال حتى في الجلساتِ العامَّة، وكان في الغالب يصحبُ معه كتابًا إذا زار المجالس…
وأستطيع القولَ أنَّ هذه المصاحبة والمجالسة أغنتني كثيرًا، وخاصةً على المستوى الفقهي والعقيدي، والروحي، والأخلاقي؛ حيث أنَّ أغلبَ الأسئلةِ في تلك المرحلةِ كانت تدورُ حولَ مسائلِ الفقهِ والعقيدةِ والأخلاق…
وما كان لشؤون السِّياسة حضورٌ واضح…
أنا هنا أتحدَّث عن الستينيات….


في الخمسينيات كان هناك جوٌّ سياسي في الشَّارع، وقد شهدتْ تلك المرحلة حركة هيئة الإتحاد الوطني…


في الستينيات، لم يكن الحراكُ السِّياسي همًّا عامًا لدى الناس، هناك جماعات سياسية غير معلنة، هناك حراكات مطلبية ذات طابع عمالي وطلَّابي…


في السبعينيات كانت أولُ تجربةٍ برلمانية في البحرين، ممَّا أوجد نشاطًا سياسيًا بارزًا خاصة في الوسط الديني…


واستمر الحراكُ السِّياسي حتَّى بعد أنْ تجمَّدتْ هذه التجربة…
وجاءت الثمانيات والتسعينيات مثقلةً بأوضاع سياسية وأمنية صعبةً جدًا…


كان رضوانُ الله عليه معاصرًا لهذه المخاضاتِ السِّياسية، وكان فاعلًا، ومتفاعلًا معها…


عودةً إلى السِّتينيات….
في بداية الستينيات كانت عودةُ السَّيد الغريفي إلى وطنه البحرين، وقد شكَّلت هذه العودةُ مرحلةً جديدةً في حياته، حيث يمكن أن نصنف تاريخه إلى ثلاث مراحل بارزة:
• مرحلة ما قبل الهجرة إلى النجف الأشرف (ما قبل الخمسينيات الميلادية).
• مرحلة الهجرة إلى النجف الأشرف (في بداية الخمسينيات).
• مرحلة العودة إلى الوطن (في بداية السِّتينيات) وكانت المرحلة الأطول في حياته.


ومنذ عودتِه كان يحمل همًّا كبيرًا أنْ يؤسِّس دروسًا حوزوية، وفور استقراره بدأ هذا المشروع، مستقطبًا عددًا مِن الراغبين في هذه الدروس، وبعض هؤلاء أصبحوا أسماءً شاخصةً، أخصُّ بالذكر: سماحة الشيخ عيسى أحمد قاسم، وسماحة الشيخ عبد الأمير الجمري، وسماحة الشيخ عباس الريِّس، وسماحة الشيخ أحمد مال الله، وآخرين…


وقد كُتِبَ لي التوفيق أنْ أحضرَ بعضَ هذه الدروس، وهكذا شكَّل هذا الحضور (المسار الثالث) مِن مساراتِ التلمذة على يد هذا الأستاذ الكبير، إضافةً إلى المسارين السابقين…


وعند هذا المنعطف مِن الحديث عن السَّيد الغريفي، أستاذًا حوزويًا، أنبِّه إلى مجموعةِ صفاتٍ امتلكتها هذه الشخصية على المستوى العلمي والحوزوي:


• كان يملك فضيلةً حوزويةً كبيرةً، وكما حدَّثنا بعضُ الفضلاء من زملائِه، أنَّ أحد أساتذته وهو الفقيه السَّيد باقر الشخص، أصرَّ عليه أنْ يستمر في النجف الأشرف، متعِّهدًا أن يمنحه شهادة اجتهاد مطلق في مدة قد لا تطول، لما وجد فيه من استعدادتٍ علميةٍ بارزة…


• كان يملكُ ذكاءً واضحًا، وحافظةً متميِّزةً، ممَّا وفَّر له قدرةً على استيعابِ البحوثِ العلميةِ الدقيقة، وعلى استحضارِ المطالبِ الأصوليةِ والفقهيةِ واللغويةِ والمنطقيةِ والكلامية والفلسفية، رغم حرمانه من نعمةِ البصرِ… ومعروفٌ عنه أنَّه كان يحفظ القرآن والكثير من الأدعية، والكثير من الروايات…



• كان لديه نهمٌ علمي وثقافي، يظهر ذلك مِن خلال رغبتِه الشديدةِ في القراءةِ والمطالعةِ، ومتابعةِ الكتب، والمصادرِ، بلا تعبٍ، أو سأمٍ، أو ملَلٍ، يُضاف إلى ذلك شغفُهُ الكبيرُ بالمباحثاتِ العلمية، وخاصة حينما يضمُّهُ مجلسٌ مع علماءَ وشخصياتٍ ذاتِ فضيلةٍ حوزويةٍ، فمجالستُهُ، ومُصاحبتُهُ غنيّةٌ بالعطاءِ العلمي والفكري والثقافي، وكذلك الروحي والأخلاقي…


• كان أستاذًا حوزويًا قديرًا وناجحًا، وليس بالضرورة أنَّ كلَّ مَنْ يملكُ فضيلةً علميةً يكون أستاذًا حوزويًا ناجحًا، فهذا يحتاج إلى مهاراتٍ، واستعداداتٍ وقدرات، ولا شكَّ أنَّ منها الكفاءة العلمية، فالسَّيد الغريفي تُميِّزُهُ قدرةٌ واضحةٌ في التدريس الحوزوي، وفي إيضاح المطالب العلمية، وهنا أشير إلى توفّرِهِ على قُدرةٍ حواريةٍ متميِّزة، مصحوبةً بموضوعيةٍ علميةٍ، فما كان يتعصَّب لرأيٍ ثبتَ خطأُه، وقلَّ مَنْ ينجحُ في هذا الجانب مِن أصحاب العلم والفضلِ.


• ثُمَّ إنَّ أستاذنا الكبير السَّيد الغريفي استطاع أن يحصل على ثقةِ أبرزِ الفقهاءِ والمراجعِ العظامِ في عصرهِ، فهو المعتمدُ الأمينُ، والوكيلُ المطلق، كما أكَّدت ذلك كلماتُ أولئك الأعلامِ والفقهاءِ والمراجعِ…


وتبقى جوانبُ كثيرةٌ في حياةِ هذا الإنسانِ، لا تتَّسعُ كلماتٌ عاجلةٌ في حفلِ تأبينٍ أنْ تُقاربها، وأنْ تستنطقها، فالسَّيد الغريفي في حاجةٍ إلى قراءةٍ متأنِّيةٍ، تحاول أنْ تكتشف بعض المكوِّناتِ العلميةِ، والفقهيةِ، والروحيةِ، والنفسيةِ، والأخلاقيةِ، والاجتماعية التي يحملُها هذا العالمُ الربّاني الكبير، فهو شخصيةٌ متعدِّدةُ الأبعاد، ومتميِّزةُ الخصائص، وهو تاريخٌ حافلٌ بالعطاءِ…


صحيحٌ أنَّ هذا العالِمَ قد امتلك شهرةً كبيرةً، في أوساطِ الحوزاتِ والعلماءِ، وفي أوساطٍ شعبيةٍ واسعةٍ في داخلِ وخارجِ البحرين، إلَّا أنَّ الأجيال الجديدةَ مِن أبناء هذا الوطنِ لا يعرفون شيئًا عنه، أكثر مِن الاسم وبعضِ معلوماتٍ ضئيلةٍ جدًا، وما أخطر أن تجهلَ أجيالُنا تاريخها وتاريخ علمائها، والأخطر مِن هذا أنَّ هناكَ سياسة تجهيلٍ تُمارسُ في حقِّ أجيال هذا البلدِ، وهذه السِّياسةُ تحملُ هدفًّا خبيثًا جدًا، وسيئًا جدًا، وهو طمسُ الهويةِ التاريخيةِ للبحرين، مِن أجلِ أنْ يموتَ حسُّ الأصالةِ والانتماءِ لدى الأجيال، ومِن أجلِ أن يتحوَّلَ الأصلاءُ في هذا البلدِ دخلاءَ، وأنْ يتحوَّلَ الدخلاءُ أصلاءَ، فيجب التصدِّي بقوَّةٍ إلى هذه السِّياسةِ المدمِّرةِ لهويةِ هذا الوطن، والتي تعتمدُ وسائل وأساليبَ متعدِّدةً ومتنوِّعةً ويأتي في هذا السياقِ: التجنيس السِّياسي والمذهبي، وطمس معالم تجذَّر وجودُها في عمقِ التاريخ (مسجد الخميس مثالًا) ولعلَّ استهداف وهدم بعض المساجد ذات البعد التاريخي يندرجُ في هذا الاتجاه، وكذلك الترويجُ للثقافةِ التاريخيةِ المحرَّفة، وتغييبُ الرموزِ العلمائيةِ والثقافيةِ والأدبيةِ والاجتماعية الشاخصةِ في تاريخ هذا الشعب…


مِن هنا تأتي الضرورةُ القصوى أن يُمارسَ أهلُ العلمِ والفكرِ والأدبِ والسِّياسة الذين يحملونَ الغيرةَ على الأصالةِ التاريخيةِ لهذا الوطنِ، أنْ يمارسَ هؤلاءِ جهودًا كبيرةً في التصدِّي لمشروعاتِ الطمسِ والعبثِ بهويةِ هذا الشعب، فإنَّ السكوتَ على ذلك يمثِّلُ خيانةً عظمى، وإقرارًا لعمليةِ التحريفِ والتزويرِ، أتعلمون لماذا تجذَّر التزويرُ في تاريخِ المسلمين، هناك أنظمةُ حكمٍ وسياسةٍ، كانَ مِن مصلحتِها أن تُحرِّفَ وأنْ تزوِّرَ حوادثَ التاريخ، فاصطنعتْ لها كوادرَ ممَّن باعُوا دينهُم وضمائرهُم للحكَّامِ والسَّلاطين، فزوَّروا، وحرَّفوا، وكذبوا على رسول اللهِ صلَّى الله عليه وآله، وليسَ مهمًّا أن يتبوَّأُوا مقاعِدهم في النارِ، المهمُّ كم يَحْصَلُون مِن دُنيا الحكام والسَّلاطين، وما دامتْ كذبةٌ واحدةٌ توفِّرُ لهم آلاف الدنانير والدراهم، ومِنْ أينَ هذه الأموال، إنَّها مِن خزانةِ المسلمين، ومن أموالِ الأمَّة…
تُصرف، وتسرقُ، وتُهدرُ استجابةً لنزواتِ الحُكَّام، وتلبيةً لرغباتِهم وشهواتِهم…


• إذا كان خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين هارون الرشيد يعشقُ اللعبَ بالحمام وتطيير الحمام، فيجب أن توضع أحاديث مكذوبة على رسول الله صلَّى الله عليه وآله تُبارك وتشرعن هذا اللعبَ وهذا العبثَ.


يدخل أبو البختري وهب بن وهب قاضي بغداد على هارون الرشيد، وهو يُطيِّر الحمام فيلتفت إليه: هل تحفظ في هذا شيئًا؟
فقال أبو البختري (قاضي الدولة الأعظم): نعم، حدَّثني هشام عن عروةٍ عن أبيه عن عائشة: أنَّ النبي [صلَّى الله عليه وآله] كانَ يطيِّرُ الحمام…


ما مصيرُ أمَّةٍ قاضي قُضاتها يكذبُ، ويزوِّر، ويحرِّف، استجابة لنزوة الحاكم، فالويل كلّ الويل لأمَّةٍ، لشعبٍ، لوطنٍ، إذا كان القضاةُ ألعوبةً بيد الحكَّام، عندها سوف تُسفكُ الدماءُ، وتزهقُ الأرواحُ البريئة، وتُهتك الأعراضُ، وتُدنَّس الحرماتُ، ويموتُ الأمنُ في الأوطان، وتضيعُ حقوقُ الشعوب، وتُسرقٌ البراري والبحارُ وحتَّى الفضاء…


وأخيرًا أؤكِّد مرة أخرى:
إنَّنا نواجه في هذا البلد مشروعًا خطيرًا جدًا إنَّه مشروع اغتيال الهوية التاريخية… لا نريد أن نحتكر تاريخ هذا الوطن لطائفة، ولكن أن يختطف هذا التاريخ، أن يزوَّر من أجل أغراض سياسيَّة ومذهبيَّة فهذا أمرٌ مرفوض…


إذا كان من أفحش الظلم أن تُزهق أرواح بريئة…
وإذا كان من أفحش الظلم أن تُهتك أعراض ويُعتدى على حرائر عفيفات طاهرات…


وإذا كان من أفحش الظلم أنْ تُدنس مقدَّسات، أن تُهدم ور عبادة، أن تُحارب شعائر دين…


وإذا كان من أفحش الظلم أن يُعذَّب أحرارٌ في المعتقلات…
وإذا كان من أفحش الظلم أن تقطع أرزاق…
وإذا كان من أفحش الظلم أن يصبح الوطن بلا أمن ولا أمان…
إذا كان كلُّ هذا من أفحش الظلم…


إلَّا أنَّ الأكثر ظلمًا، وفحشًا، وإثمًا أن تُقتل هويةُ وطنٍ وهويةُ شعب:
– أن يعبث بمعالم تاريخ…
– أن تزوَّر معطيات ثقافة…
– أن تشوَّش مكوِّنات تُراث…
– أن تُغيَّب رموز أصالة…
– أن تغيَّر تكوينةُ شعب..


إذا كان الظلمُ السِّياسي والأمني يُشكِّل عنوانًا شاخصًا، فإنَّ قتل الهُوية التاريخيَّة مشروع يتحرَّك متستِّرًا بأقنعةٍ وأقنعة، ولا شكَّ أنَّ هذا المشروعَ هو من نتاجاتِ الظلم السِّياسي والظلم الطائفي..
إنَّ مسئوليةَ كلَّ الغيارى على هُوية هذا الوطن وعلى أصالة تاريخه، أن يمارسوا دورهم في التصدِّي لمشروعات العبث بهذه الهوية، وبهذه الأصالة في سياق التصدِّي لكلِّ أشكالِ الظلم السِّياسي والأمني والطائفي…


والحدُّ الأدنى في هذا التصدِّي أن يُعقد مؤتمر أو ملتقى سنوي يُذكِّرُ الأجيال برموز هذا الوطن مِن علماء وأدباء ومفكِّرين… مَعنيٌّ بهذا التصدّي حوزاتنا الدينية، ومؤسَّساتنا العلمائية والثقافية، والاجتماعية، وأصحابُ الكفاءات والقدرات الفكرية والأدبية، وكلُّ أصحاب الإمكانات المادية…
هذه دعوة طرحتها قبل مدة، ولا زالت الدعوة قائمة…


وآخر دعوانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين


كلمة العلامة السيد عبدالله الغريفي في تأبين رحيل العلامة السيد علوي الغريفي


لمشاهدة الحفل التابيني كاملا … اضغط هنا  




























 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى